على مقربة من مدارة “النجمة” في مدينة طنجة، بدأت رحلة في اكتشاف عالم الليل والبغاء مع بائعة هوى والسابحين في فلك هذه الظاهرة التي أخذت تنخر ثقافة الاحتشام وأسس المجتمع المغربي المحافظ.
كانت الساعة تشير إلى السابعة مساء اقتربنا من شابة وعرفنا بهويتنا والغاية من اللقاء، “شنو المقابل”؟ هكذا ردت الشابة الثلاثينية بدون أي مقدمات حتى بدا إقناع “المومس” بقبول الدعوة أشبه بالمهمة المستحيلة تلتفت تارة وتواصل المشي تارة أخرى في مشهد لا يخلو من معاكسات عابري سرير؛ فالعاهرة لا تملك وقتا لإضاعته مع الإعلام وساعة الإغلاق تداهمها ولا بد أن تحصل على صيد ثمين لتدبير مصاريف حياتها بعدما رمت بها ظروف الحياة على شطّ هذه الضفة القاتمة.
عاهرة مثقفة..
شاءت الصدفة أن نلتقي مجددا بنفس الفتاة وسط مقهى النرجيلة، ملامح الحسن جلية في محياها، وقوام رشيق يحيل على اهتمامها بالرياضة، رموش اصطناعية، وأياد ناعمة تبرز أظافر مصبوغة بطلاء فاقع، وتنورة قصيرة تكشف عن ذراعين حليقين، ومفاتن جسد نحت بعناية فائقة.
ترفض “دنيا”، كما اختارت أن تسمي نفسها، وصف جميع ممارسات العلاقات الرضائية بـ”الباغيات”، داعية إلى ضرورة التمييز بين الباغيات اللائي يمتهنّ الدعارة كحرفة تعتمد على منطق العرض والطلب، والتي يكون خلالها الجنس مقابل الأجر، معتبرة أن هذا الشرط فقط ما يجعل المرء يتجه إلى تسميته بالبغاء، “وهكذا كان حال البشرية منذ الأزل الأول”، وفق قولها.
وأوضحت المتحدثة ذاتها أن الفتيات اللائي تدخلن في تجارب عاطفية مع الرجال يفضي تطورها العاطفي إلى الانتقال إلى مرحلة العلاقات الرضائية التي يحركها الحب أو الإعجاب، أو حتى إن كانت لتلبية رغبات الذات باعتبارها من الحاجيات الطبيعية؛ فهؤلاء لا يمكن إطلاقا تسميتهن بالباغيات، لأنهن لا يحصلن على مقابل لذلك. كما أن ما جرى لم يكن من قبيل الخدمات الجنسية التي تعرضها ممتهنات الجنس”.
وتابعت دنيا: “شخصيا، أعيش حياتي كما أريد، بعيدا عن سلطة العادات والتقاليد الاجتماعية البالية. أؤمن أن لكل امرأة مطلق الحرية في التعامل مع جسدها وفق ما تراه مناسبا، ولا يمكن بأي حال من الأحوال قذف المرأة المتحررة بأوصاف مخزية ذات حمولة ذكورية، لمجرد أنها تعلن عن دعمها لحرية الجسد، وتتعامل وفق هذا المبدأ؛ فيما الرجال لا يهمهم من المرأة إلا ثمرة تلك العلاقة، ومع ذلك لا يتم وصفهم بتلك النعوت القبيحة”.
وأضافت الشابة ذاتها أن الرغبة الجنسية تتحرك في سن معينة في دواخل الرجال كما النساء، دون أية فوارق بينهم؛ فليس هناك تمييز في العواطف، متسائلة لماذا يبعد المجتمع الرجل عن فوهة القصف عندما يستبيح جسد امرأة استسلمت لمشاعرها تجاهه، فيما يتم وصمها بعار الزنا أو البغاء؟.
وشددت الشابة، وهي المراكمة لأزيد من 5 سنوات في المجال، على أن “الحكم حتى يكون منصفا لا بد أن يطبق على قدم المساواة بين الجنسين”، واستدركت بالقول: “لكل ذلك، تمردت على أعراف هذا المجتمع ، منذ أيام مراهقتي، ولست نادمة أني سلكت طريق الحرية الذي مكنني من عيش حياتي دون عقد أو ازدواجية، ولن أقبل من أي كان أن يصفني بـ”الباغية””.
وعن الأسباب الواقفة وراء ولوج هذا المجال، أوضحت دنيا أن “الأسباب كثيرة ومتعددة، وكل وحدة وكيفاش طرا ليها وعلاش باعت راسها للذئاب؛ لكن غالبا الفقر وقلة الشي هي اللي كتخلي البنت تعرض لحمها وإذا دخلت مجال الدعارة يصعب الخروج من هذا النفق الطويل راه “بلية حتى هي”.
من دار لدار
داخل شقق مفروشة تقبل المئات من الفتيات على الدعارة سرا وعلانية والأعداد في ارتفاع مستمر بفعل عوامل مختلفة، لا يتحملن رؤية أنفسهن في المرآة صباحا، يظهرن بمظهر الطبيعيات في الشارع؛ لكن الأمر غير ذلك بالمنازل.
قصص كثيرة تفضح بعضا من المسكوت عنه وما يعتبر من منظور المجتمع “طابوها”. والحديث عن قصصهن مرتبط بمتعة الليل في عالم لا مكان فيه للبسطاء، بعيدا عن أشعة الشمس، قريبا من أضواء النوادي و”الحفر” الليلية وشوارع الإدمان بحثا عن نسيان واقع مر والتحرر من قيود الفقر والحرمان داخل منازل تضيق بمشاكل قاطنيها.
وراء خدمات المتعة التي توفرها “دنيا”، تتوارى معاناة قوامها الفقر والبطالة والعار؛ فالشابة غادرت بيت الوالدين بمدينة تازة، بعد علاقة غير شرعية مع أحد أقربائها للارتماء في أحضان عروس الشمال حيث ذاقت سياط الذل قبل أن تصبح “فتاة الليل” التي هي الآن.
اشتغلت دنيا في بادئ الأمر نادلة بمقهى شعبي لتدبير مصاريف كراء شقة رفقة شابات أخريات، كانت الفوارق بادية بين القادمة من تازة ورفيقاتها ممن يشاركنها البيت نفسه من حيث الملبس والهاتف والمال، فجربت الخروج معهن ذات يوم وها هي الآن تلعن الوقت وعابري السرير الذين عاشرتهم.

“نادرة هي الليالي التي استمعت فيها بالجنس مع أحدهم”، تقول الشابة التازية كاشفة عن اشمئزازها من الراغبين في خدماتها، وزادت: “كون لقيت خدمة أو صالير كافيني منبقاش فهاد الدومين”، كما لم تخف رغبتها في الاعتزال: “ما يمكنش الواحد يعيش فهاد الوسخ لكن هادي هي الدنيا والطرف دالخبز ولى صعيب”.

علم النفس والبغاء
يرى عبد الواحد أولاد الفقيهي، أستاذ التعليم العالي المتخصص في علم النفس والتربية بتطوان، أن “الحديث عن ظاهرة “البغاء” يستدعي وضع مسافة الحذر الموضوعي التي تحمي الباحث من فخ الأحكام المسبقة والتبريرات الأخلاقية؛ فكلمة بغاء في حد ذاتها تنطوي على حكم معياري يشير إلى الظلم والفجور والعدول عن الحق والرغبة الجامحة”.

كما يكمن في الانتباه إلى ما هو متداول من التعريفات التي تربط بين البغاء والعهر والزنا والدعارة، أو تضفي عليه اللامشروعية واللا أخلاقية والانحراف.

وأضاف الأكاديمي نفسه أن الكثير من علماء الاجتماع يستعمل عبارة “عمل جنسي” للدلالة على هذه الظاهرة؛ فمعظم الأعمال التي يقوم بها الإنسان اجتماعيا تنسب إلى مجال معين (عمل يدوي ـ عمل ذهني ـ عمل سياسي ـ عمل تجاري الخ). من هنا، يمكن الحديث عن فاعل يمارس الجنس مقابل أجر أي يتاجر بجسده في سياق البحث وتوفير قوت يومي، بغض النظر عن أي وصف قدحي أو حكم أخلاقي أو تمييز نوعي، فكثير من الأعمال أو الحرف التي يزاولها الإنسان إنما يزاولها باختيار. ولكن هذه المعادلة غير سليمة دائما فهناك مهن أو حرف يمارسها الإنسان قسرا وقهرا وإكراها، أي ينعدم فيها شرط الحرية والاختيار.

وأوضح الدكتور أولاد الفقيهي أن “البغاء” من حيث هو عمل جنسي ينتفي فيه هذا الشرط لأنه أمام ظواهر الفقر والتفكك العائلي وانتشار ظاهرة البطالة عموما وفي صفوف النساء تحديدا وفي غياب فرص الشغل القانوني المتاح أمام فئات من النساء، وانعدام شروط التكوين والتأهيل المهني للنساء، تلجأ العديد من النساء اضطرارا وليس اختيارا إلى العمل الجنسي لتدبير القوت اليومي الخاص أو إعالة الأسرة الصغيرة أو الكبيرة،

وبالتالي، يضيف المتحدث ذاته، فلا مجال للحديث عن رغبة جنسية مفرطة أو نزوات أو انحرافات تفسر بها هذه الظاهرة. كما أن هذا الطابع الاضطراري للعمل الجنسي يبرز بقوة بالنظر إلى سياق الظروف والشروط التي تتاجر فيها المرأة بجسدها؛ فهي ظروف محفوفة بمخاطر العنف والأمراض والتهديد، وأيضا من حيث هو عمل موجود ومنتشر اجتماعيا ومجرم (يتم تجريمه) قانونيا. بل هناك نوع من التواطؤ الضمني بين أطراف أو جهات أو أفراد يدفع الفتاة بشكل مباشر أو غير مباشر إلى المتاجرة بجسدها للتغلب على إكراهات الحياة والتغلب على ظروف الفقر. وما يقوي من هذه الظاهرة ضعف الوازع الأخلاقي ذي المصدر الديني أو المدني. كما أن ظاهرة العمل الجنسي هذه اتخذت أحيانا أبعادا أخرى منظمة، من خلال بروز شبكات تستغل فقر وهشاشة فئات من الفتيات عبر إغرائهن والمتاجرة بهن.

ويوضح أستاذ علم النفس والتربية أن مسألة حرية العمل الجنسي، أي الاعتقاد أن الفتاة هي التي تختار هذه الحرفة، هي مسألة يجب النظر إليها بشكل معكوس، بمعنى أن المسألة لا تتعلق باختيارها الحر من حيث فاعلة جنسية؛ بل تتعلق بمنظور المجتمع الأبوي الذكوري الذي رسخ تصورا معياريا سائدا يعتبر الفتاة عاملة الجنس حرة عن عملها وممارستها وأفعالها ويحملها بالتالي مسؤولية فعلها وما يترتب عنه من إدانات واتهامات واستغلال وعنف الخ. وينسب إليها استفحال الظاهرة وما يترتب عنها من مشاكل. والأمر أشبه بما يعرف بالعزو السببي الذي يدفع شخصا ما إلى عزو مسؤولية الفعل المنبوذ إلى طرف آخر، وأشبه أيضا بتبرير نفسي وليس بتفسير علمي؛ أي تبرير يتم من خلاله تحرير الذات الإحساس بالذنب الناتج الاعتراف بالفعل.

ويقر الخبير المغربي بصعوبة حرية الفتاة العاملة الجنسية، لاعتبارات عديدة؛ منها الشكل الانتظاري السلبي الذي يجعل من الفتاة كفاعلة جنسية في وضع انتظار للزبون المناسب أو الضروري، كما أن هذا الزبون يعتبر نكرة يفرض نفسه كجسد آخر يسعى إلى تحقيق المتعة الفردية أو الذاتية بمقابل مادي تتم المساومة عليه غالبا.

وهنا تبرز، حسب الأستاذ الجامعي، علاقة التشيئ التي تجمع بين الطرفين، أي علاقة تجعل من الفتاة مجرد موضوع جنسي محض مجرد من كل المشاعر ووعاء لتفريغ شحنة ذكورية مكبوتة، وتجعل من الزبون مجرد مصدر مادي لتحقيق حاجيات ضرورية يومية أكثر ضرورة من متعة الجنس.

ويورد عبد الواحد أولاد الفقيهي أن في إطار هذه العلاقة التشيئية بين فتاة تتاجر بجسدها وزبون يوظفه أو يستهلكه جسميا ونفسيا (تفريغ) يتعذر الحديث عن إرادة حرة في امتهان حرفة، مثلما هو الأمر في مجالات أخرى.

ترك الرد

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا