حملة غير مسبوقة يشهدها المغرب اليوم عبر جر عدد من النواب البرلمانيين إلى القضاء، يشتبه في تورطهم في ارتكاب أفعال ذات صبغة جنائية، سواء تعلق الأمر بالاتجار بالمخدرات أو تبديد أموال عمومية، أو التزوير والارتشاء، أو أفعال أخرى يعاقب عليها القانون.
أحيت هذه السلسلة من المتابعات القضائية الآمال لدى كثير من المواطنين، على اعتبار أنها تجسد سمو القانون، إلى جانب إمكانية مساهمتها في تخليق العمل البرلماني وإبعاد التمثيل النيابي عن دائرة الشكوك، فضلا عن إعادة الاعتبار لسمعة المؤسسة البرلمانية التي تظل مؤسسة مركزية في عملية تشريع القوانين ومراقبة الأداء الحكومي وتقييم السياسات العمومية.
ولقيت الرسالة الملكية بمناسبة الذكرى الستينية للبرلمان صدى واسعا داخل هذه المؤسسة وخارجها كذلك، إذ إنها نبهت إلى ضرورة تضافر الجهود قصد تخليق العمل السياسي والبرلماني المغربي بشكل يبعد عنه جميع الممارسات التي تتنافى وروح القانون وروح الدستور التي تؤكد على “دولة الحق والقانون”.
كما بدا الفهم البرلماني لمضمون هذه الرسالة واضحا، فقد “استنفر” مضمون هذه الوثيقة غرفتي البرلمان بهدف التحرك من أجل إعادة الثقة للعمل البرلماني والسياسي وربط المسؤولية بالمحاسبة، مع الإعلاء من قيمة مناصب المسؤولية وجعلها مربوطة دائما بالمحاسبة في نهاية المطاف.
ويرى مراقبون ممن تحدثوا أن “الرسالة الملكية الأخيرة دقت ناقوس الخطر بخصوص ما بات يعانيه العمل السياسي من إكراهات مرتبطة بالفساد”، موضحين أن “مدونة للأخلاق البرلمانية لا ترقى إلى أن تكون كافية، وبالتالي يستدعي الوضع المرور إلى نصوص مستقلة خاصة بالممارسة السياسية في مختلف مراتبها”.
تغيير جذري
رشيد لزرق، رئيس مركز شمال أفريقيا للدراسات والأبحاث وتقييم السياسات العمومية، أفاد بأن “صورة وسمعة التمثيل النيابي اهتزت بفعل سلسلة المتابعات القضائية الأخيرة في حق عدد من أعضاء المؤسسة البرلمانية الذين لم يلتزموا بالمصلحة العامة والشفافية والنزاهة والانخراط في مكافحة الفساد في المجال السياسي خصوصا”.
وأضاف لزرق، في تصريح، أن “هذه السلسلة من المحاكمات أوضحت ضرورة اللجوء إلى إصلاح قانوني وسياسي، وهو ربما ما أرادت الرسالة الملكية بموجب الذكرى الستين للبرلمان التنبيه إليه، حيث تتضمن القوانين الداخلية لغرفتي البرلمان على سبيل المثال العديد من الواجبات الأخلاقية التي تدعو البرلمانيين إلى الالتزام بها، غير أنها تظل فاقدة لمعطى الإلزامية”.
وأوضح المتحدث أن مدونة الأخلاق البرلمانية التي يتم الحديث عنها “ستظل غير كافية أمام نسق سياسي تشوبه العديد من الشوائب، الأمر الذي وجب مقابلته بسياسة تخليق موسعة للحياة السياسية بشكل سيساهم في إعادة الاعتبار للعمل السياسي ككل وجعل الصالح العام في صلب اهتماماته”، لافتا إلى أن “كل أعضاء البرلمان مدعوون لتحمل مسؤولياتهم كاملة في إعطاء الصورة الأفضل عنهم وعن البرلمان، وإظهار أعلى درجات الأخلاق والقيم التي تتوافق مع دورهم المهم من أجل المصلحة الوطنية”.
وبخصوص ما يجب أن تتضمنه المدونة الأخلاقية المرتقبة، أكد الأستاذ ذاته أن “هذه الوثيقة المستقبلية وجب أن تنص على ضرورة التزام النواب البرلمانيين بالامتناع عن أي عمل فيه نوع من تضارب المصالح مع مهامهم البرلمانية، إلى جانب تعزيز مسؤولياتهم النيابية والذاتية، وضبط طريقة تعاملهم مع أعضاء الحكومة والسلطة القضائية وفعاليات المجتمع المدني ووسائل الإعلام كذلك”.
أوسع من المدونة
عبد العزيز خليل، باحث في القانون، قال إن “المتابعات القانونية التي باشرتها النيابة العامة في حق مختلف رجال السياسة، وتحديدا أعضاء البرلمان المغربي ممن هم في وضعيات غير قانونية، لا يمكن إلا أن تشكل تعبيرا واضحا عن الاستقلالية التي باتت تتمتع بها السلطة القضائية بالمغرب”.
وأضاف خليل، في تصريح لهسبريس، أن “الرؤية الملكية بخصوص الحياة السياسية أبت إلا أن تستغل الدورة الستين للبرلمان من أجل دعوة أعضاء المؤسسة التشريعية إلى وضع مدونة للأخلاق البرلمانية، حيث ستفتح هذه الدعوة الباب كذلك لبلورة مجموعة من الأفكار القانونية بخصوص الأنظمة الداخلية للبرلمان”.
وأوضح المتحدث ذاته أن “مدونة للأخلاق على مستوى البرلمان لا تكفي، على اعتبار أن تجويد العمل السياسي يقتضي المرور نحو إصدار نص مستقل يؤطر ممارسة السياسة ككل بالمغرب، بما فيها الجهات والجماعات المحلية كذلك”.
وفسر خليل أن “المملكة بعد دستور 2011 خطت خطوات متقدمة في رفع الحصانة عن السياسيين، حيث يمكن متابعتهم جنائيا استنادا إلى مختلف القوانين الجاري بها العمل. فما عدا التعبير عن الرأي، فإن البرلمانيين على سبيل المثال لا يتوفرون على أي حصانة، أي إنهم لا يتمتعون بالامتياز القضائي إلا فيما يتعلق بآرائهم السياسية”.
واعتبر الباحث القانوني أن “الدعوة الملكية الأخيرة كانت ذات طبيعة شمولية وتؤكد أن المملكة المغربية حسمت في اختياراتها الديمقراطية وسيادة دولة الحق والقانون، وذلك احتراما دائما لقرينة البراءة التي تؤكدها الأحكام المكتسبة لقوة الشيء المقضي به”.